الكاتب: ادوارد سعيد
تاريخ النشر(م): 3/12/2002
تاريخ النشر (هـ): 28/9/1423
منشأ:
رقم العدد: 14502
الباب/ الصفحة: 9 - الـرأ ي
الرابط
http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/2002/12/3/معلومات-مضللة-عن-العراق.html
لتلك التي شنّت على أفغانستان
ومع ذلك فإن أحد أوجه هذا السيل الجارف من الآراء والحقائق، الأشد إزعاجاً بحد ذاته من دون اشارة الى هدفه الفعلي، يتمثل في فيض المقالات المتعلقة بعراق ما بعد صدام. ومن بين ما ارغب في مناقشته بشكل خاص هو ما يبدو بوضوح جزءاً من جهد متواصل يبذله مغترب عراقي، كنعان مكية، ليقدم نفسه بوصفه مبتكر ما يقول انه بلد "غير عربي" ونظام لا مركزي في مرحلة ما بعد صدام. اولاً، من الواضح تماماً لكل من لديه أدنى اهتمام بشأن عذابات هذا البلد الغني والمزدهر في الماضي ان سنوات حكم البعث كانت كارثية، على رغم برنامج التنمية والبناء الذي نفذه النظام في البداية. لذا لا يمكن المرء ان يعترض على محاولة تصور الحال المحتملة للعراق اذا اُطيح صدام إما بتدخل اميركي او بانقلاب داخلي. وكانت مساهمة مكية في هذا الجهد مثابرة، سواءً في مقابلات اذاعية او في صحف بارزة حيث يُعطى منبراً لنشر آرائه التي سأتكلم عنها بعد قليل. لكن ما لم يبيّن بالقدر ذاته من الوضوح هو من يكون وما هي الخلفية التي برز منها. واعتقد بأن من المهم معرفة هذه الاشياء، أقلها لتقدير اهمية مساهمته ولإدراك الميزة الخاصة لأفكاره ومقاصده على نحو اكثر دقة
يجري التعريف بمكية عادةً بكونه على صلة بهارفرد في مجال الابحاث وكبروفسور في جامعة برانديس كلاهما في بوسطن. لكنه كان، عندما عرفته للمرة الاولى في بداية السبعينات، على صلة وثيقة بالجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. وكان آنذاك، حسب ما اتذكر، يدرس الهندسة المعمارية في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا "إم آي تي"، لكنه لم يقل شيئاً يذكر خلال المرات التي رأيته فيها. ثم اختفى عن الانظار، او بالأحرى عن انظاري. وظهر الى السطح في 1990 تحت اسم سمير خليل، مؤلفاً لكتاب حظي بإشادة عنوانه "جمهورية الخوف" وتضمن وصفاً لحكم صدام حسين بقدر كبير من الترويع والاثارة. ويبدو ان "جمهورية الخوف"، الذي كان أحد الاعمال المثيرة اعلامياً خلال حرب الخليج الاولى، كُتب - حسب ما جاء في مقابلة متملقة مع مكية نشرت في مجلة "نيويوركر" - عندما ترك مكية العمل كشريك في المكتب المعماري التابع لوالده في العراق بالذات. واعترف في المقابلة بأن صدام، بمعنى ما، موّل تأليف كتابه بشكل غير مباشر، برغم ان احداً لم يتهم مكية بالتواطؤ مع نظام من الواضح انه يمقته.
في كتابه الثاني، "القسوة والصمت"، هاجم مكية المثقفين العرب الذين اتهمهم بالانتهازية واللا اخلاقية لأنهم إما اشادوا بانظمة عربية مختلفة او لزموا الصمت على الانتهاكات التي تقترفها الحكومات المختلفة ضد شعوبها. لم يقل مكية شيئاً، بالطبع، عن تاريخ صمته هو بالذات واشتراكه في الجريمة كأحد المستفيدين من سخاء النظام، على رغم انه كان يملك الحق، بالطبع، في العمل مع من يشاء. لكنه تفوّه بأخس الاشياء عن اشخاص مثل محمود درويش وعني لكوننا قوميين، ونؤيد التطرف حسب ما زُعم، ولأن درويش كتب قصيدة لصدام. كان معظم ما كتبه مكية في الكتاب، حسب رأيي، مثيراً للاشمئزاز، اذ استند الى تعريض جدير بالازدراء وتفسير مضلل. لكن الكتاب حظي، بالطبع، بشعبية لفترة وجيزة لأنه أكد وجهة نظر في الغرب أن العرب مسايرون أنذال يتصفون بالدناءة. وبدا أن لا غضاضة في ان يكون مكية ذاته اشتغل لصدام او أنه لم يكتب اطلاقاً اي شيء عن الانظمة العربية حتى صدور كتابه ""جمهورية الخوف"، أي حتى أصبح خارج العراق وأنهى خدمته هناك. وجرت الاشادة به هنا وهناك في اميركا لكونه رجل ضمير شجاعاً ولأنه تحدى الرقابة على الذات التي يمارسها المثقفون العرب. لكن هذه الاشادة كانت تنهال عادةً على مكية من اشخاص كانوا يجهلون حقيقة ان مكية ذاته لم يكتب أبداً في بلد عربي أو ان اياً من نتاجه الشحيح كُتب تحت اسم مستعار وفي حياة مرفهة وآمنة في الغرب.
وباستثناء هذين الكتابين ومقالة تحض الادارة الاميركية على احتلال بغداد خلال حرب الخليج الاولى، لم يُسمع الكثير بعد ذلك عن مكية. وفي العام الماضي، انتج رواية ثقيلة الظل تثبت بطريقة ما ان قبة الصخرة بناها في الواقع يهودي. وكان الناشر بعث بها إليّ، لذا كنت تصفحتها قبل ان تصدر رسمياً، لكنني صُعقت لرداءة الاسلوب الذي كتبت به وللهوامش التي تطفح بها، في ما يعكس رغبة لا تقاوم للتباهي بعدد الكتب التي قرأها المؤلف، وهو بالتأكيد شيء غير مألوف بالنسبة الى ما يُزعم انه عمل روائي. لكن الرواية لفّها النسيان وعاد مكية الى صمته
وحتى انطلاق الحملة على العراق بتحريك من الحكومة الاميركية قبل بضعة شهور لم يكن مكية نطق بشيء يذكر عن الحرب على الارهاب واحداث 11 ايلول والحرب في افغانستان. صحيح انه أعدّ ما يشبه التعليق لمجلة نصف شهرية اميركية شعبية عن كراس تعليمات ارهابي اسلامي يفترض انه لمحمد عطا، ولكنه كان اداءً تافهاً حتى وفقاً لمقاييسه. لكنني اتذكر بوضوح انني سمعت بالصدفة اواخر الصيف الماضي مقابلة اذاعية اجريت معه ذكر فيها للمرة الاولى انه يرأس مجموعة تابعة لوزارة الخارجية الاميركية تخطط لعراق ما بعد الحرب، وما بعد صدام. وكان اسمه لم يظهر بين اولئك الذين جرت الاشارة اليهم كجزء من جماعات المعارضة العراقية التي تموّلها الولايات المتحدة، كما لم يساهم بأي شيء يمكن أحداً من الجمهور العام ان يقرأه عن النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي او أي قضية اخرى من قضايا الشرق الاوسط
ونُشرت خطة مكية الأوسع للعراق بعد غزو اميركي، التي أعدها في اطار عمله الحالي كموظف مقيم في وزارة الخارجية الاميركية، في "بروسبكت" في عدد تشرين الثاني نوفمبر 2002، وهي مجلة شهرية بريطانية ليبرالية جيدة لدي اشتراك فيها. يبدأ مكية "مشروعه" بسرد الافتراضات البالغة الغرابة التي تقف وراء افكاره، ومن بينها افتراضان لا يمكن تصورهما بذاتهما. الأول هو ان "عزل" صدام ينبغي إلاّ يحدث بعد حملة جوية. ولا بد ان مكية يعيش على المريخ كي يتصور أنه، في حال وقوع حرب، لن يكون هناك هجوم جوي ضخم على رغم ان كل خطة متداولة لتغيير النظام في العراق تثبّت بوضوح انه ينبغي قصف العراق بلا رحمة. الافتراض الثاني ليس أقل تخيلاً، اذ يبدو ان مكية يعتقد، خلافاً لكل الأدلة، بأن الولايات المتحدة ملتزمة الديموقراطية وبناء الدولة في العراق. ولا استطيع ان افهم لماذا يعتقد بأن العراق يشبه المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية كلاهما اُعيد بناؤه بسبب الحرب الباردة. كما انه لا يشير اطلاقاً الى حقيقة ان الولايات المتحدة مصممة على اسقاط النظام العراقي بسبب احتياطي البلاد النفطي ولأن العراق عدو لاسرائيل. وهكذا، يبدأ بتثبيت افتراضات تتناقض ببساطة مع كل الأدلة
ثم يواصل طرح مشروعه، غير مكترث بمثل هذه الاعتبارات غير المهمة. فيقول ان العراقيين ملتزمون الفيديرالية بدلاً من حكم مركزي. وما يقدمه لإثبات ذلك تافه تماماً. ومثل كل محاولاته الاخرى لاقناع قارىء مقالته بأنه يطرح افكاراً شديدة الأثر، يبدو منطقه ضعيفاً الى حد بعيد لأنه يقوم هو ايضاً على افتراض خيالي وعلى تأكيداته الشخصية المشكوك فيها الى حد كبير. فهو ملتزم الفيديرالية، ويقول ان الاكراد يتبنون الموقف ذاته. أما من أين يُفترض ان تأتي الفيديرالية كنظام سوى من طاولته في وزارة الخارجية الاميركية فإنه لا يكلّف نفسه الافصاح عن ذلك. ومن الواضح انه ينوي فرضها من الخارج، على رغم انه يدعي من دون إثبات يُذكر بأن "الجميع" متفقون على ان الفيديرالية في العراق ينبغي ان تكون الحصيلة. وهذا "يعني تحويل السلطة من بغداد الى الاقاليم" بجرّة قلم، كما يبدو، من الجنرال تومي فرانكس. وهكذا، يبدو كما لو ان يوغوسلافيا ما بعد تيتو لم تكن موجودة اطلاقاً وان الفيديرالية المأسوية في هذا البلد حققت نجاحاً تاماً. لكن مكية يبدي تمسكاً بآرائه كمنظّر فوق العادة للحكم لدرجة انه يتجاهل ببساطة العواقب والتاريخ والشعب وفئات المجتمع والواقع بأكمله كي يعرض فكرته المشكوك فيها بشكل مثير للسخرية. هذا هو، بالطبع، وبالضبط، ما تريده الحكومة الاميركية، أي ان يكون لديها مثقفون عرب من اتجاهات شتى، لا يخضعون لمساءلة من أحد، يحضّون العسكريين الاميركيين على شن الحرب فيما يتظاهرون بتحقيق "الديموقراطية" للبلاد في تناقض مع الاهداف الحقيقية لأميركا وممارساتها الفعلية في الماضي. ويبدو ان مكية لم يسمع بعمليات التدخل المدمرة التي نفذتها الولايات المتحدة في الهند الصينية وافغانستان واميركا الوسطى والصومال والسودان ولبنان والفيليبين، او بتورط الولايات المتحدة عسكرياً في الوقت الحاضر في حوالي 80 بلداً
وتتمثل ذروة تبرير مكية لغزو العراق من جانب الولايات المتحدة في اقتراحه ان يكون العراق الجديد غير عربي. وفي معرض كلامه، يتحدث بازدراء عن الرأي العام العربي الذي لن يكون له، حسب قوله، أي شأن اطلاقاً. وهذا يمهد بالطبع لطرح تكهناته الخيالية بشأن المستقبل والماضي على السواء. أما كيف سيتحقق هذا الحل السحري بنزع الهوية العربية فإن مكية لا يفصح، كما هي الحال ايضاً في ما يتعلق بتوضيح كيف سيتم تخليص العراق من هويته الاسلامية وقدراته العسكرية. انه يشير الى خاصية مبهمة يطلق عليها "الاقليمية"، ويتابع ليبني على ذلك قلعة اخرى من الرمل كأساس لدولة العراق المقبلة. لكنه يتطوع في النهاية بالقول ان هذا كله سيُضمن "من الخارج" من جانب الولايات المتحدة. اما أين حدث مثل هذا الشيء اطلاقاً من قبل فإنه ليس قضية تقلق مكية، كما لا يبدو على نحو مماثل قلقاً بشأن نزعة التفرد والتدمير غير الضروري
يكاد المرء لا يدري هل يضحك ام يبكي لمواقف مكية. فمن الواضح ان هذا رجل لا يملك اي خبرة في الحكم، او حتى في المواطنة. فبعد التنقل بين بلدان وثقافات ومن دون التزام واضح تجاه أي شيء سوى طموحه الى التسلق، وجد الآن ملاذاً في أعماق الحكومة الاميركية يستخدمه ليغذّي تهويماته المسرفة في الخيال. وهو، كشخص يسرف في توبيخ نظرائه بشأن مسؤولية المثقف والرأي المستقل، لا يعطي مثالاً على هذا او ذاك. بل العكس تماماً... وأجد انه أمر لا يصدّق ان يسمح مكية لنفسه بمثل هذا النفاق والغرور، ولكن لم لا يفعل ذلك؟ انه لم يشترك ابداً في مناقشة علنية مع أي من زملائه العراقيين، ولم يكتب أبداً لجمهور عربي، ولم يرشح نفسه أبداً لمنصب او لأي دور سياسي يتطلب شجاعة والتزاماً شخصيين. فقد اعتاد إما الكتابة باسم مستعار او مهاجمة اشخاص لا يملكون أي فرصة للرد على افتراءاته
من المحزن ان يلمح مكية ضمناً الى ان صوته هو الصوت والمثال لعراق المستقبل. ومحزن ايضاً أن نرى إزهاق ارواح الألوف جراء عقوبات وحشية فرضها راعيه. أو أن توشك ارواح وحياة المزيد منهم ان تدمّر بحرب الكترونية تشنها على بلاده حكومة جورج بوش. لكن لا شيء من ذلك اطلاقاً يقلق هذا الرجل. فهو يواصل هذره، متجرداً من الرأفة او الادراك الفعلي، ليخاطب جمهوراً من الانكلو - اميركيين الذين يشعرون بالرضا كما يبدو لأنهم عثروا اخيراً على عربي يظهر الاحترام اللائق لقوتهم وحضارتهم، بغض النظر عن الدور الذي لعبته بريطانيا في التقسيم الامبريالي للعالم العربي، او الأذى الذي ألحقته الولايات المتحدة بالعرب عبر دعمها لاسرائيل وانظمة حكم ديكتاتورية عربية
يمثل مكية ظاهرة زائلة. لكنه عَرَضٌ لاشياء عدة في آن. انه يمثل المثقف الذي يخدم السلطة من غير تردد، وكلما كانت السلطة أعظم كلما أصبحت شكوكه أقل. انه رجل مغترّ لا يبدي أي رأفة وأي تحسس للمعاناة الانسانية. وبتجرده من أي مبادىء او قيم ثابتة، يبدو على شاكلة الصقور المناهضين للعرب المستهترين اخلاقياً مثل ريتشارد بيرل وبول ولفوفيتز ودونالد رامسفيلد الذين ينتشرون في ادارة بوش مثل الذباب على كعكة. فلا يبدو ان الامبريالية البريطانية او سياسات الاحتلال الوحشية الاسرائيلية او الغطرسة الاميركية تعوقه ولو للحظة. الاسوأ من هذا كله، انه رجل يمتاز
بالتفاخر والسطحية، مطرياً نفسه لمعقوليته حتى عندما يحكم على شعبه بمزيد من العذاب ومزيد من التشريد. واأسفاه للعراق
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا