كاظم فنجان الحمامي
بات من سوء حظنا أن نتحمل على مضض مرارة الفساد الإداري بنكهاته المقززة, وروائحه المنفرة, التي لم نألفها من قبل, وبات من الصعب علينا التكهن بما ستؤول إليه أحوال الفساد, وما سينتج عنها من ممارسات بشعة لا يصدقها العقل, ولا يقبلها المنطق, فالوشاية (مثلا) صارت عندنا من أخطر الأمراض الاجتماعية الآخذة بالتوسع والانتشار, ولم نكن نتوقع أبدا أنها ستتحول في يوم من الأيام إلى هواية وغواية, ثم إلى تهمة تطارد الشرفاء والمتعففين حيثما عملوا في أروقة المؤسسات الحكومية المترهلة. .
قبل بضعة أيام كنت أنزوي وحيدا في إحدى المقاهي الساهرة على ضفة النهر, وشاءت الصدف أن يجلس إلى جواري رجلان, بدا أنهما من صنف المقاولين أو من المجهزين, كانا يتجاذبان الحديث بفرح غامر, وبأصوات مرتفعة تتخللها قهقهات هستيرية صاخبة, لا تخلوا من الشماتة بمصير آخر ضحاياهما من الموظفين الأكفاء المعروفين بالعفة والنزاهة, وتبين من خلال حديثهما أنهما كانا يكرهان ذلك الموظف البسيط الملتزم, والذي كان يعيق طريقهما, وكان يتصدى لألاعيبهما ويمنعهما من تمرير صفقات الغش والتزوير عند قيامهما بتجهيز المواد والمعدات المطلوبة, فنصبا له فخا, وتسببا في تجريده من منصبه, بوشاية رخيصة سعيا بها إلى مكتب المدير العام, الذي كان متحزبا لكتلته السياسية, ومعروفا بمحاربته لعناصر الكتل الأخرى المناوئة لكتلته, فانتهزا هذا التنافر, وهرعا إلى المدير المتحيز, وقالا له: أن الموظف الفلاني يميل إلى الكتلة الفلانية, وانه يضمر العداء لكتلة المدير, فصدر القرار في صباح اليوم التالي بتنحية الموظف, وإبعاده عن دفة الإدارة, فخلا لهما الجو بهذه الوشاية, واستمرا بممارسة المزيد من الغش والتحايل, بعد أن نجحا بتدمير مستقبل ذلك الموظف الصالح, وبعد أن تخلصا منه بمكيدة مدبرة. .
تألمت كثيرا على مصير ذلك الموظف المسكين, فغادرت المقهى على الفور, وانتقلت إلى محل آخر من الكورنيش, جلست هناك أتأمل مراكب الصيد المبعثرة على ضفة (التنومة), فطارت بي الذكريات المؤلمة إلى الفترة, التي كنت فيها مديرا لقسم التفتيش البحري, والتي تصديت فيها لظاهرة تزوير شهادات الزوارق والمراكب الصغيرة, فكنت أول من استعان بملصقات الهولوغرام, التي يتعذر تزويرها, فحققنا بهذه التقنية الجديدة المعقدة قفزات هائلة في ردع المزورين, والانتصار على قدراتهم الحرفية الخطيرة, ولم تمض بضعة شهور, على الاستعانة بملصقات الهولوغرام, حتى انهالت فوق رأسي الاتهامات من كل حدب وصوب, تمحورت كلها حول محور الملصقات الهولوغرامية, وكانت النتيجة التوقف عن استعمالها بعد مغادرتي قسم التفتيش, فعادت الأوضاع بعد ذلك إلى زمن الأساليب البالية الموروثة من عصر (حصرم باشا)
الوشاية شجرة فاسدة ظهرت في مستنقعاتنا المتخلفة, التي غاب فيها صوت العدالة الإدارية, ومما يؤسف له أن هذه الشجرة تكاثرت باضطراد في هذه البيئة الملائمة لنموها, حتى صرنا نعيش في ظلال غاباتها الخانقة, وأوراقها الصفراء المتطايرة بأجنحة الكذب والتلفيق والتشويه, بقصد إلحاق الضرر بالقلة القليلة من الذين آثروا السير على النهج القويم, وبقصد تشويه صورتهم بحملات محمومة من الأخبار المزيفة, التي لا أساس لها من الصحة, مع علم الوشاة ببطلانها. .
فما أسهل الإطاحة بالشرفاء عن طريق الوشاية بهم في ظل العدالة الغائبة, وتحت تأثيرات الضوابط الإدارية المعطلة في دواوين المحاصصات الوظيفية المتأرجحة, وما أسهلها من أسلحة بيد الذين احترفوا الوصول إلى مآربهم بالطرق الملتوية, فشوهوا بالوشاية سمعة الناس, وأمعنوا في الإساءة إليهم, على الرغم من أن مبادئ الخلق الرفيع تمنعنا من اللجوء للوشاية حتى مع الذين أخطئوا في حقنا, فما بالك بالذين صارت الوشاية هوايتهم المفضلة, وصارت مطيتهم التي ركبوها حصانا جامحا يصولون فوق ظهره اليوم في أروقة التشكيلات الحكومية المتلهفة هي الأخرى للرقص على أنغام الوشاية والنميمة, والمستعدة دائما لسماع الأخبار الملفقة التي ينقلها الوشاة ؟؟.
أغلب الظن أن الوشاية التي تحولت من خصلة مذمومة إلى هواية محببة عند البعض, ستتحول بمرور الأيام إلى مهنة رسمية, بل تكاد تكون كذلك بشهادة المخبر السري ووشاياته في السر والعلن. . .
والله يستر من الجايات