كاظم فنجان الحمامي
للمرة الثانية على التوالي, وفي التوقيت نفسه بعد تفجيرات العام الماضي, تحولت منطقة (خمسة ميل) الفقيرة البائسة إلى مسرح دموي مفتوح لارتكاب جرائم القتل العشوائي, التي حملتها أجندات التنظيمات التكفيرية السرية المنتمية إلى الشيطان نفسه, فخططت لتنفيذها هنا في قلب السوق الشعبي المكتظ بالباعة والمتسوقين والمتجولين, فتحصد أرواح العشرات منهم, من كل الأجناس والطوائف والأعمار, فالغايات المعلنة في جداول الإرهاب, هي تنفيذ التفجيرات في الأماكن الفقيرة المزدحمة بالسكان من اجل تسجيل أعلى الإصابات بين المدنيين, وقتل أكبر عدد من العراقيين بصرف النظر عن انتماءاتهم وألوانهم وميولهم, فالعراقيون وحدهم هم الهدف, وهم الضحية في كل زمان ومكان, وها هم اليوم يتساقطون بالعشرات بعبوات المجرمين والسفلة المنتمين إلى خلايا الإرهاب التابعة لدول الجوار. .
لا تجد في البصرة كلها أفقر من (خمسة ميل), و(الكزيزة), و(الحيانية), و(شط الترك), و(علاوي القصب), التي لا يسكنها أصحاب المناصب العليا, ولا يتردد عليها وجهاء العهد الجديد وأصحاب الدرجات الرفيعة, إلا في الحملات الانتخابية, فالناس هناك يعيشون بين مخالب الفقر, أما الأكشاك التي استهدفتها الانفجارات فتكاد تكون متخصصة ببيع التمر واللبن والخضروات والأطعمة الرخيصة, التي اعتاد عليها فقراء البصرة, ولا يستطيعون تناول غيرها بسبب ضعف حالهم, وقلة مواردهم المالية, رغم أنهم يفترشون الأرصفة فوق أكبر وأوسع وأعمق وأغنى آبار البترول في كوكب الأرض. .
هزت الانفجارات الثلاثة سوق (خمسة ميل) وسط البصرة, وعصفت به وقت الذروة المسائية, فاهتزت لها القلوب الضعيفة الخاوية الخائفة الصابرة, ولم تهتز ضمائر الأوغاد, الذين مولوا بؤر الإرهاب, وغذوا منابعها, وخططوا لتنفيذ هذا المسلسل المأساوي الإجرامي. .
وقعت المجزرة الأولى بعد انفجار أولى العبوات الناسفة, التي وضعوها بين أقدام الناس, فتناثرت جثثهم في كل الاتجاهات, ثم وقعت المجزرة الثانية بعد تجمع الشباب الذين هرعوا لنجدة الجرحى وإخلاء الضحايا, فتمزقت أجسادهم, وتبعثرت في بحيرة الدم التي صنعتها المجزرة الأولى, ثم وقعت المجزرة الثالثة بين تجمعات فرق الإسعاف الفوري, وتشكيلات الدفاع المدني, ورجال الشرطة والجيش, فاستهدفت أهل الغيرة والحمية, وأصحاب النخوة, والسواعد الوطنية الصادقة, الذين هرعوا إلى مواقع التفجير من دون تردد, كان في مقدمتهم العميد عادل أحمد محمد العتيبي, والعميد مطر الساعدي, والعميد قيس القريشي, والعميد رحيم العلياوي, ومعهم نخبة من الضباط والجنود والشرطة ورجال النجدة والإسعاف, فاستشهدوا في هذه الملحمة الخَمْسَمِيليَّة الدامية. .
جريمة حيوانية بشعة, وقعت هنا على يد الإرهابيين, الذين قبضوا ثمن خستهم ونذالتهم من دول الجوار, ولا نستثني منها دولة, وبخاصة الدول القريبة من البصرة. .
بالأمس القريب خرجت علينا صحيفة (الوطن) الكويتية بمقالة صريحة كتبها الموتور (مفرج الدوسري), تحمل عنوانا استفزازياً عدوانياً إجرامياً سافراً, عنوانها: (ألو الحجاج ؟), يُمنْي فيها الكاتب نفسه بلقاء الحجاج, ليستعين به في الفتك بالعراقيين, وقطع رقابهم بالجملة, ثم يعود مرة أخرى ليعلن عن علاقته الحميمة بالحجاج, ويتباهى بتواصله معه من خلال المكالمات الهاتفية الوهمية, التي يجريها معه عبر شبكة التخاطر الدموي, التي أفصح عنها بمقالته: (ألو الحجاج ؟), فوقع اختياره على هذا الطاغية من بين كل الطغاة, لأن سيرته كانت ملطخة أكثر من غيره بدماء العراقيين, ولأنه تمادى في سفك دماء الناس, واشتهر بنشر الرعب في أرض الرافدين, فيترحم عليه وعلى أيامه, ويستعجله بالنهوض من قاع جهنم لينشر الرعب من جديد في المدن العراقية المسالمة, وصدق من قال: شبيه الشيء منجذبٌ إليه, والغربان على أشكالها تقع, فقد بات من المؤكد أن المستغيث والمغيث على مذهب واحد. .
هذا واحد من الذين استرخصوا دماء الشعب العراقي, وهذا مثال حي من الذئاب البشرية الذين باعوا ضمائرهم, وخسروا دينهم, وتخلوا عن إنسانيتهم, فبرعوا بصناعة الموت والترويج له, واستعانوا بقوى الرعب والشر, في السر والعلن, لتخويف العراقيين وسفك دمائهم, وهناك الآلاف من أمثاله, أو على شاكلته, ممن وقفوا وراء تفجيرات (خمسة ميل(
هؤلاء كلهم من جنس الحجاج ومن طينته, لأنهم نشئوا وترعرعوا في أحضان الرعب والشذوذ والانحطاط, وتلقوا الدعم والتشجيع والتدريب على يد الفئات الباغية, التي استسهلت قتل الناس في العراق من دون ذنب, لا لشيء إلا لأنهم ينتمون إلى هذا البلد المهدد منذ زمن بعيد بمؤامرات ذوي القربى, ودسائس أبناء الجيران, وأفعال أذنابهم وعملائهم وزبانيتهم. .
صرنا في العراق نعيش وسط حزمة من المخارز السوداء المسمومة: تمثلت بشقيق عاق, وجار سوء, ومحتل مراوغ. مخارز أدمت قلوبنا على مدى سنوات من الزمن المر, فلا جارنا يصون متطلبات الجيرة, ويحفظ مبادئها, ولا قوى الاحتلال ترحل عنا وتكفينا شرها, ولا شقيقنا الأصغر تهز ضميره قيم الأخوة فيرفع عنا أذاه بعد أن نحرتنا خناجره من الوريد إلى الوريد, والمشتكى لله وحده. . .
ألا تبا لأعداء العراق كلهم من دون استثناء
والرحمة على أرواح شهداؤنا الأبرار
والخزي والعار للذين ارتموا في أحضان الشياطين والأبالسة