د. عمر الحسن
منذ لقائي الأول بـ «أحمد الجلبي» الذي يعود إلى عام 1984 حينما كان مديرًا لبنك البتراء الأردني؛ حيث عرفني إليه صديق هو المرحوم «عبد اللطيف الشواف»، وزير المالية العراقي الأسبق، والأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب سابقًا؛ والذي كان يعمل مستشارا قانونيا غير متفرغ لدى البنك المذكور آنذاك، لم أشعر بالراحة تجاهه، ولا سيما أنه خلال ذلك اللقاء أبلغه أنه أمر بأن يصرف له مبلغ 15 ألف دولار مقابل دراسة قانونية أعدها للبنك، وأن هذا المبلغ مساعدة، فانتفض «عبد اللطيف»، ورد قائلاً لا أقبل صدقة من أحد أنا ابن الشواف، وتمتم بكلمة أعتقد أنها «شتيمة»، وكان يتصرف في البنك وأمواله كأنه ملكه الخاص؛ حيث كان قد عين عددًا من الوزراء المتقاعدين النافذين مستشارين، والكل يعلم أن البنك لا يحتاج إليهم.. وقد وصفته للشواف في حينه بـ «الألعبان».. وبعد سنتين تقريبًا إذا بـ «أحمد الجلبي» يفر هاربًا إلى لندن بسبب اتهامه بالفساد وسوء الإدارة، وحكم عليه من قبل محكمة أردنية بالسجن وباسترداد المبالغ التي استولى عليها.
وقد التقيته بعد ذلك في لندن مرتين عامي 1987 و1988 في كل مرة على غداء وتحدثنا في أمور مختلفة وعن أحوال صديقنا المشترك؛ فوجدته كما توقعت مراوغًا جاحدًا ناكرًا، وفوق هذا ـ كما ثبت ـ فاسدًا، ويفتقر إلى المبادئ.
وانقطعت اتصالاتنا بعد أن التحق بالمعارضة العراقية ضد نظام الرئيس العراقي السابق «صدام حسين» التي كانت نشطة آنذاك في لندن، وكانت أخباره تتردد في وسائل الإعلام الغربية كثيرًا كعادة الغرب في تلميع عملائه أو من يخدم مصالحه، وزادت بعد غزو واحتلال العراق في أبريل عام 2003؛ حيث عاد إليه على دبابة أمريكية ليمارس ممارسات طائفية مقيتة شقت صفوف العراقيين، وأدت إلى مصرع عشرات الآلاف وتهجير مئات الآلاف منهم.
مناسبة هذه المقدمة هي استغرابي من قيام صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، التي لها مكانتها، بنشر مقال للكاتب «جاي سولومون» يوم 15 نوفمبر الجاري للترويج لشخصية «الجلبي»، بزعم أنه قدم العديد من وسائل الدعم والمساندة للمعارضة البحرينية، إضافة إلى ما تضمنه من منطق مغلوط وقلب للحقائق.
فـ «الجلبي» الذي تحاول الصحيفة تلميع صورته، والترويج له كداعية من أجل التغيير نحو الأفضل في الدول العربية، لا يتردد اسمه على صفحات الصحف إلا وتستدعي ذاكرتي، بحكم متابعتي لأخباره، دوره في تقديم معلومات زائفة لواشنطن من أجل غزو بلاده واحتلالها، وكمحكوم عليه بالسجن لاستيلائه على أموال بنك البتراء الأردني، وتاليًا التصاق اسمه بجانب معارضين آخرين بالحصول على تمويل من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) يقدر بـ 95 مليون دولار للصرف على نشاطاتهم؛ استعدادًا للحرب على العراق، ولذلك لم أستغرب ما حدث في نوفمبر 2002 عندما اتصل بي من لندن زميل «للجلبي» يدعى «نوري بدران»، الذي أصبح أول وزير داخلية خلال تولي الأمريكي السيئ الذكر «بول بريمر» حكم العراق، وطلب الاجتماع بي.. ترددت في البداية ولكنني وافقت بعدها، والتقينا في لندن وطلب موافقتي على عقد مؤتمر تحت عنوان : مستقبل العراق بعد «صدام» في القاهرة، تحت مظلة مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية يدعى إليه نحو 120 شخصية هم (أي المعارضة العراقية) يحددونها من أوروبا وأمريكا والخليج وبعض الدول العربية وتتحمل نفقات إقامتهم وتذاكر سفرهم.. فأجبته دعني أدرس الموضوع، وبعد أسبوع عقدنا اجتماعًا آخر في القاهرة، بحضور ممثلين عن السيد «نوري» ورؤساء الإدارات بالمركز، وعرض ممثل السيد «نوري» دفع 250 ألف دولار للمركز مقابل عقد المؤتمر، فكان ردي بالرفض، ليقيني أن المعارضة تحولت إلى أداة بيد قوى أجنبية تبحث عن تنفيذ أجنداتها الخاصة.
وبدأ «الجلبي» ذو النزعة الطائفية والاستقصائية بامتياز يبث سمومه وكراهيته من خلال رئاسته ما يسمى هيئة المساءلة والعدالة في إيجاد هوة عميقة بين السنة والشيعة في العراق، والمساهمة في تأجيج العنف بين طوائف العراق الرئيسية، مما ترتب عليه تحول هذا البلد إلى ساحة للفوضى والخراب وتردي أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويبدو أن «الجلبي» يريد تكرار المحاولة نفسها في البحرين، ولكن بالتعاون هذه المرة مع إيران، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على براعته في تغيير ولائه الاستخباراتي، وإجادته لعبة تغيير حلفائه؛ فبعد أن خفت نجمه في واشنطن التي حققت معه بتهمة تسريب معلومات سرية إلى طهران، بدأ يتجه إلى البحث عن حليف آخر يتعاون معه ضد العرب، ووجد ضالته المنشودة هذه المرة في إيران، التي لا تخفي نياتها في زعزعة الاستقرار في البحرين، بمحاولته ؟ أي الجلبي - كما سبقت الإشارة دعم من يصفون أنفسهم بالمعارضة البحرينية، وبدأ يسلك في هذا السبيل طرقا شتى مباشرة وغير مباشرة، أفاضت الصحيفة المشار إليها في تناولها، ونشير باقتضاب إلى أبرزها، وهي:
§ زيارة وفد يضم نشطاء بحرينيين ترأسته إحدى المقربات إلى «الجلبي» واشنطن خلال شهر أكتوبر الماضي، لمناقشة أحداث البحرين، مع مسئولين في وزارتي الخارجية والدفاع والكونجرس، بمشاركة محام كويتي - مقرب إلى الجلبي - يدعى «عبدالحميد دشتي» - الأمين العام لما يسمى منظمة المؤتمر العام لدعم شعب البحرين، غير أن الخارجية الأمريكية نفت علمها بوجود صلة بين الوفد وبين «أحمد الجلبي».
§ تنظيمه مؤتمرًا ببغداد في أبريل الماضي ضم معارضة بحرينية وسياسيين عراقيين ورجال دين شيعة (ذكرت الصحيفة رفض السفير الأمريكي ببغداد حضوره).
§ محاولته الفاشلة في يونيو الماضي إرسال سفينة بها 40 طبيبا عراقيا وحمولة مليون دولار من المواد الطبية إلى البحرين (عارضها مسؤولون أمريكيون بدعوى أنها قد تزيد من التوتر في البحرين وفق الصحيفة)
إن ما نشرته الصحيفة يحمل في حقيقة الأمر أحقادا دفينا لدى «الجلبي» ضد البحرين، أبرز ملامحها محاولته ؟ كما فعل ضد بلاده ؟ استمالة الولايات المتحدة لتأييد مواقفه، عبر إرسال مقربين إليه إلى واشنطن لترويج المزاعم والأكاذيب والتشويه، وهو التوجه الذي ارتد عليه.
ليس هذا فحسب، وإنما يمكن وصف ما تضمنه مقال الصحيفة بأنه يحاول استغلال ما شهدته البحرين من أحداث خلال شهري فبراير ومارس الماضيين التي تورط فيها نفر لديهم أجندة خارجية من أجل تأجيج الفتنة الطائفية وزعزعة الاستقرار والسلم الأهلي فيها.
وليت الأمر اقتصر على محاولة «الجلبي» جذب الدعم والتأييد لما يسمى المعارضة البحرينية في واشنطن، وإنما امتد أيضًا لمحاولة استمالة بعض الأطراف الإقليمية في محاولته تلك من خلال تنظيم ومعه آخرون مؤتمرات في بغداد وبيروت، منها مؤتمر نظم في أكتوبر الماضي في بيروت كان لحزب الله دور فاعل فيه؛ حيث نقلت فعالياته عبر قناة المنار التابعة له والموالية لإيران.
وفوق هذا وذاك، أكد «الجلبي» أنه سيواصل جهوده في الشهور المقبلة لتنظيم مؤتمرات تتناول البحرين في أوروبا، كما تحدث زملاؤه عن تأسيس قناة عربية اسمها «آسيا تي في» مقرها بيروت ستركز في التغييرات الديمقراطية التي يشهدها الشرق الأوسط، وقال «الجلبي» إنه يدرس الانضمام إلى إدارة تحريرها.
وهكذا، فكما لعب دورًا مشبوهًا وظفته الولايات المتحدة لمصلحتها في غزو واحتلال العراق عام 2003، يبدو أنه يحاول لعب الدور ذاته لكن ضد البحرين هذه المرة، بمحاولته ؟ كما يشي مقال الصحيفة الأمريكية - الاستقواء بواشنطن ، متجاهلاً على ما يبدو أنه أصبح طاقة محروقًة عربيا ودوليا، أو هكذا يبدو. فهدف «الجلبي» المعلن حسب تصريحاته في «وول ستريت جورنال» هو محاولة دفع الولايات المتحدة إلى الموافقة على جدول زمني لإنجاز إصلاحات في البحرين، متجاهلاً أن المملكة شرعت في إصلاحات حقيقية منذ تولي جلالة الملك «حمد» أمانة المسؤولية عام 1999 عبر مشروعه الإصلاحي، وليس عبر أشرعة الطائفية كما حاول «الجلبي» للأسف الشديد تحقيقها في بلاده مما جلب لها الدمار والخراب وقتل الآلاف وشرد الملايين وقسم البلاد.
ونظرًا إلى شخصيته المراوغة؛ حيث يجيد التنصل من أدواره ومواقفه، فكما أنكر عدم تعمده تضليل الولايات المتحدة في غزوها واحتلال بلاده عام 2003، ها هو يتنصل أيضًا كما بدا خلال مقابلته مع الصحيفة المذكورة من قيامه بتنسيق جهوده مع طهران ضد البحرين، وما يدحض ذلك أن تصريحاته ومواقفه التي ترتبط بأجندات إقليمية تعمل على زعزعة الاستقرار في منطقة الخليج، تتناغم إلى درجة التطابق مع تصريحات ومواقف طهران في ظل العلاقات الوثيقة بين الجانبين.
وبالتالي، فإنه ليس بغريب على شخص بمواصفات «الجلبي» أن يقدم بين الحين والآخر على افتعال مواقف بطولية زائفة، يحاول من خلالها البحث عن دور له أكبر من حجمه الحقيقي يخرجه من غياهب التجاهل والنسيان، بطرحه نفسه مؤخرًا كداعية مزيف للديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان، متناسيًا أيضًا أن ما صدر عنه من مواقف عدائية وحاقدة ضد مملكة البحرين لا تعبر إلا عن شخصية انتهازية تقدم خدماتها لمن يحركونها من أجهزة المخابرات، وأن البحرين أكبر من أن تنال منها تخرصات ومواقف مشبوهة تصدر عن شخصيات لا وزن ولا تأثير لها