هيفاء زنكنة
2011-10-21
نشرت منذ ايام ورقة علمية جديدة تثبت، بما لايقبل الشك، ما كنا نتحدث عنه جميعا من ناشطين وعلماء وأكاديميين، من جميع انحاء العالم، عن تأثير استخدام اسلحة اليورانيوم على سكان المناطق المستهدفة وانه سلاح يجب تحريم استخدامه لانه من الاسلحة القاتلة ذات التأثير بعيد المدى التي يتجاوز تأثيرها مئات السنين (على اقل تقدير) بعد انتهاء الحروب ونسيان اسباب النزاع .
وقد نشرت نتائج البحث المعنون 'اليورانيوم وغيره من الملوثات في شعر آباء وأمهات الأطفال الذين يعانون من التشوهات الخلقية في الفلوجة، العراق'، في مجلة علمية محكمة هي 'النزاع والصحة' بتاريخ 2 أيلول/سبتمبر 2011، من قبل فريق عراقي بريطاني قام سابقا بنشر دراسة اخرى، في 'المجلة الدولية للبيئة والصحة العامة' في تموز/يوليو 2010 عن الارتفاع الملحوظ في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، جنبا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الاصابة بالسرطان في الفلوجة وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة، في أعقاب الهجمات التي قادتها الولايات المتحدة الامريكية على مدينة الفلوجة، غرب العراق، في عام 2004. وهو الهجوم الذي يوصف بأنه الأكبر الذي خاضته قوات المارينز (البحرية الامريكية) منذ حرب فيتنام 1968. وقام فيه الجيش الامريكي بالتعاون مع قوات بريطانية وعراقية بأمرة اياد علاوي، رئيس الوزراء حينئذ، باستخدام اسلحة اليورانيوم بالاضافة الى الفسفور الابيض.
واذا ما كانت الدراسة السابقة قد توقفت عند اثبات نسب التشوهات وبيان الزيادة في امراض السرطان ومقاربتها لحالات التشوه والامراض التي نتجت عن استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما، فان الدراسة الحالية، قد توصلت الى نتيجة واضحة حول تحديد السبب واثباته وهو استخدام اليورانيوم المخصب وهو السبب الذي طالما نفته الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، باعتبارهما المستخدمين الرئيسين لهذه الاسلحة فضلا عن قذائف اليورانيوم المنضب الرخيصة الثمن والفعالة كسلاح فتاك، في حربهما الاولى ضد العراق بداية التسعينات.
وقد قام مختبر في ألمانيا باجراء العمل التحليلي لنماذج شعر 25 من آباء وامهات اطفال ولدوا بتشوهات خلقية، استخدم المختبر خلالها طرقا شديدة الحساسية ومتعارفا عليها دوليا من الناحية العلمية.
وتم اختيار الشعر لان افراز المعادن الملوثة في الشعر هو نفس معدل افرازها في البول. وقد لوحظ تواجد كميات عالية من المعادن من بينها اليورانيوم. واليورانيوم فقط، هو المشع والمرتبط بمرض السرطان والعيوب الخلقية. وتبين ان مستويات اليورانيوم أعلى بكثير من تلك المتوقعة على أساس قياسات أخرى نشرت عن سكان في بلدان غير ملوثة ولا سيما اسرائيل والسويد. ولم تبين المستويات في نماذج التربة ومياه الانهار والحنفية والآبار تفسيرا لنتائج الشعر، ولكنها أظهرت وبشكل يثير الدهشة ان اليورانيوم في البيئة لم يكن طبيعيا ولكن من صنع الانسان غير انه لم يكن من نوع اليورانيوم المنضب. الا ان النتيجة كانت مختلفة في العينات المستخلصة من الفلوجة سواء من شعر الآباء والأمهات أو العينات البيئية، حيث كانت نسبة اليورانيوم منخفضة بشكل ملحوظ، مما يعني ضمنا وجود اليورانيوم المخصب. للتحقيق في مصدر اليورانيوم، ولأن شعر النساء في الفلوجة طويل، ولان معدل نمو الشعر هو سنتيمتر واحد شهريا، تمكن فريق البحث من الحصول على معلومات التعرض التاريخية عن طريق تحليل شعر خمس نساء. حيث أظهر تحليل الشعر ان التلوث كان أعلى بكثير في الماضي. ففي حالة امرأة طول شعرها 80 سنتيمترا وكون نهاية الشعر تعود إلى عام 2005، بعد الهجوم مباشرة، بالمقارنة مع تركيز اليورانيوم في عام 2011، أثبت التعرض لمستويات عالية جدا من اليورانيوم في الماضي. الجانب الآخر الذي يعرضه فريق البحث هو الأدلة على أن الآثار المترتبة على صحة الطفل واضحة في العراق كله وكذلك ابناء قدامى المحاربين في حرب الخليج كما تطرقوا سابقا الى التشوهات الجينية وزيادتها بنسب مذهلة.
وخلص الباحثون الى ان سلاحا يحتوي على اليورانيوم قد استخدم في معركة الفلوجة، وهو السبب الرئيسي في ارتفاع مستويات السرطان والأمراض الخلقية نظرا الى العثور على اليورانيوم المخصب صناعيا في بيئة الفلوجة وان مستواه كان اعلى في الماضي. وتناقش الورقة منظومات الأسلحة وتستشهد ببراءات الاختراع التي تدعو لاستخدام اليورانيوم في أنواع الأسلحة المضادة للأفراد (بدلا من قذائف اليورانيوم المنضب المضادة للدبابات التي استخدمت في حرب الخليج الاولى) لتشمل، أيضا، نظم الأسلحة الحرارية والمتفجرات المعبأة باليورانيوم المطور التي تقتل عن طريق تفحيم الضحايا وآثار الضغط التي تسبب انهيار الرئة.
وجاء في التصريح الصحافي الذي نشره الباحثون لتقريب طريقة ونتائج البحث الى الجمهور الواسع، أن آثار اليورانيوم المخصب قد وجدت، أيضا، في ميادين القتال الحديثة الأخرى، لا سيما في لبنان، حيث أظهر تحليل نموذج تربة من حفرة صاروخ في منطقة الخيام، وكذلك الغبار من مرشح هواء في سيارة إسعاف، وجود اليورانيوم المخصب في عام 2006، كما ذكر الصحافي روبرت فيسك في صحيفة ' الإندبندنت' البريطانية.
تشكل الدراسة العلمية الجديدة خطوة في مسار توثيق جرائم الاحتلال الانكلو امريكي للعراق وهي مشابهة بذلك لنشر وثائق الويكيلكس التي قد لا تكشف جديدا بالنسبة الينا كعراقيين الا انها مهمة في مجال توثيق الجرائم وأدلتها عندما يتم تقديم المسؤولين الى العدالة مستقبلا. وتختلف حالات ولادة الاطفال المشوهين خلقيا وانتشار الامراض السرطانية بين النساء والاطفال خاصة سواء في المدن التي تعرضت الى اشعاع اليورانيوم المنضب اثناء حرب الخليج الاولى او الصدمة والترويع اثناء الغزو في 2003 أو استخدام اليورانيوم المخصب في الهجوم الكاسح على الفلوجة في 2004، عن بقية جرائم الاحتلال من ناحيتين، الاولى انها تشكل جريمة حرب تتنافى مع قوانين الحرب الانسانية لانها تستخدم اسلحة يبقى تأثيرها القاتل على المدنيين على مدى بعيد وبعد انتهاء الحرب واسباب النزاع. الثاني، لانها وبسبب تأثيرها القاتل ببطء على الاطفال والنساء، جميعا بلا استثناء وبمساواة مخيفة، انما تشكل جريمة ابادة لمستقبل العراق كله وتؤثر بدرجة او أخرى على المنطقة كلها بسبب هبوب غبار الموت عليها. هنا يتضح حجم مشاركة حكام وساسة العراق الجديد الصامتين على هذه الجريمة. اذ ان واجب اية حكومة تمثل شعبها القيام بحماية حقوق الانسان وأولها حق الحياة. ولن يتم ذلك الا من خلال الضغط بقوة على الدول التي شاركت في احتلال وتدمير العراق، على تحمل مسؤوليتها من خلال تحديد مواقع القصف واستخدام اسلحة اليورانيوم والعمل على تنظيفها، مهما كانت مسمياتها، وتعويض المواطنين المتضررين ومساعدة المرضى وانشاء مراكز صحية للعلاج والتوعية، آخذين بنظر الاعتبار ان العراق لايزال يدفع التعويضات لحكومة الكويت ولجهات اخرى متعددة بعد عشرين عاما من انتهاء احتلال الكويت.
الا ان سلوك ساسة العراق الجديد يتجسد في موقفين: الاول هو الحاجة الماسة الى ارضاء المحتل لانه من جاء اغلبهم برفقته وليس هناك من ضمان مستقبلي لهم في المجتمع العراقي بدونه واي محاولة لاثارة موضوع استخدام اليورانيوم المنضب والمخصب او اي سلاح محرم انما يأزم العلاقة بين الطرفين ويؤدي الى اشعار المحتل بان الساسة العراقيين المتعاونين معه (من الطالباني والبارزاني الى علاوي والهاشمي وبقية الجوقة) انما هم ناكري جميل ولايستحقون 'تضحيات' الجنود الامريكان. الموقف الثاني هو موقف انتقائي من حق الحياة. فساسة حكومة العراق الجديد، بضمنهم النواب، لديهم تفسيرهم الطائفي والعرقي الخاص (كما هي امريكا والغرب في ازدواجية المعايير) بحقوق الانسان. فلا يجد رئيس قائمة دولة القانون، مثلا، ضيرا في مداهمة واعتقال وتعذيب اعضاء في كتل اخرى او مواطنين آخرين متهمين بانهم 'ارهابيون وصداميون' أو بانهم من من تيار آخر، وحسب قاعدة 'ايطبهم مرض'، أي فليصبهم مرض، أو في احسن الاحوال، كما برر جلال الطالباني ووزير حقوق الانسان وآخرون من الساسة، اثناء انكشاف فضيحة التعذيب الهمجي في أبو غريب، بان العراقيين كانوا يعذبون تحت النظام السابق.
والمفارقة المضحكة المبكية، ان هذه الانتقائية في تفسير حقوق الانسان، لن تنجح اطلاقا فيما يخص استخدام اسلحة اليورانيوم بل وستترجم على ارض الواقع لتبين الغباء المطلق لهذه المواقف. اذ ان لعنة تأثيرات اسلحة اليورانيوم ليست انتقائية. ان تأثيراتها شاملة ضد الجميع وبـ 'ديمقراطية' مخيفة. فتأثير اليورانيوم القاتل البطيء المسبب لكل انواع السرطانات لن يفرق بين شيعي وسني او ائتلاف او آخر او مكون او حزب او قومية اخرى. فهل يدرك ايتام الغزاة حجم الكارثة التي انزلوها على انفسهم، والتي لن يغفرها لهم أبناء الشعب لانهم يعرفون ما يفعلون.
كاتبة من العراق